الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

ليلةُ عيدْ





هَذا العِيد بَدا لَها كَأول يومٍ تَغتربُ فِيه ، وَأولَ مرفأٍ لِلعودة . كُلما علتْ ضحكاتُ الأطفالِ زادَ ارتِباكها وأرْهقتها ذِكرى الطفولةِ التِى لمْ تمُت . كَما أنْ جلوسِها لِعدة ساعاتٍ أمَام عتبةِ بابِها لنْ يَملأ يدِها بِالحلوى التِى لا تَأتى يَوماً ، هاتفَها الذِى لا يتوقفُ عنِ الصمتْ ،صندوقَ بريدِها الذِى لا يَعلم الساعِى بِوجودهْ .. كُل تلكَ الأشيَاء التِى تَزيد مِن عثراتِها فِى تلكَ الأيامِ كافية ًبَأن تُعيدها مرةً أخْرى لِمنفاها البعيدْ .
اليومُ تَمر عشرةُ أعوامٍ عَلى غِيابه ، عَلى تَهدُلِ ذَلكَ الوَعدِ بِاللقاءْ ، ولا مانِعَ لَديها بِأن تَتخلى عنْ أفْراحِ العيدِ أعوامِها القادِمة علّها تَرقى لِليلةٍ واحِدة لِلسماء.انتفَضتْ مِن فِراشها المُتخمِ بِخصلاتِها البَيضاءْ ، اغتَسلتْ مِن صورِ الأمْسِ وتَطهرتْ مِن بَقايا سَنواتِها الهَرِمهْ . ارتَدت فُستانِها المُهترِئ وجَدلتْ مِن بَقايا عِطرهِ ضَفائرَ مُلونةْ . تَلعثمتْ أهْدابِها وهِى تجدِل مِن أمْنياتِها عُقداً . غَزلتْ قَلمِها المَسحُور بينَ أصَابِع يَدِها ورَاحتْ تَنسِجُ وَصايَا مُعبئةً بِمَحبرةِ الأحْلامْ . أودَعتْ كَلِماتِها لَدى النافِذة حَيثُ يَجرِفها رَذاذَ الهَواءِ عَالياً . لمْ تَحتضِنُ غُرفتِها دَائِرةُ ضَوءْ .. لا نَافِذة .. لا سَبيلَ للخروجْ . وَرغمِ هَذا تَبعثرت الحُروفْ فَوقَ أكْتافِ الجِدارْ .
فِى ذاتِ الليلةِ كانَ صَوتُ زخَاتِ المَطرِ فِى الخارِجْ يرمُقها بِنظراتٍ مِن الخوفِ والرهبهْ ، كَأنغامٍ مُبللة تُحرِضها عَلى الرقصِ حَافيةِ القَدمينِ فَوق أرصِفةِ مَدينتِها الجَريحةْ . لوحَتْ مِن بَعيد لِعصافيرٍ اعتادتْ أن تَقضمَ أطرافِ ظِلالِها كُل صباحْ . طَارتْ مَعها خلفَ حَديقتِها الفقيرةْ ، وَاستطاعتْ أنْ تَلمحْ قَطراتِ النَدى تُعانِقُ زَهراتِ الليمونْ الحامِضْ .
ظَلتْ لِساعاتٍ طويلةٍ تَسرقُ رائِحةَ المَطر ورَاحتْ تَختبىءُ خلفَ ورقاتِ الخريفِ الهارِبةُ مِن غيمِ السماءْ . تأرجَحت عَلى أرجوحةِ يتدلَى الفجرِ مِن أغصانِها ، فَجمعتْ فِى سَلتِها الصَغيرةْ خَطواتِه المُبعثرةِ عَلى عَتباتِ الجِسرِ القديمْ ، وَ أجهضتْ جَسدها المُكتنِز بِرواسِب أظفارِهْ البارِدةْ . وكَما أنْ البعضَ لا يُشفى مِن أوجاعِه .. لمْ تنمُ خَيباتِها بهِ يوماً ، وأصابِع يدهِ العوجاءْ تُوشمُ جَبينِها .
داعبتْها صورتهِ قبلَ الرحيلْ ورائِحةٍ غَجرية ثلطِخُ أكمامِ قَميصهِ ، بَينما لاتَزالُ آثارِ قُبلاتِها مطبوعةٍ فوقَ عينيهْ. وكلماتهِ تعبثُ بِأنفاسِها كُلما توسّدتْ ذِراعيهْ ، فَتتساقطُ أمنياتِ الشِتاءِ فِى جوفِها .
مرّت شتاءاتٌ كثيرةْ قَبل أنْ تفيقَ مِن غَفوتِها تِلك . قَبل أنْ تَعود كلِ مَساءٍ لإجهاضِ المَزيدِ مِنْ الأمْنياتْ بَينمَا لا يَزالُ القَمرُ نَائِماً .. حتَى تَنشقُ أشعةٍ بَيضاءٍ تُذعِنُ مَرةً أخْرى بِالرحيلْ .